قصة نوح علیه السلام
صفحة 1 من اصل 1
قصة نوح علیه السلام
قَصَصُ الأنْبِیَاءِ
للإمام ابن الحافظ ابن كثیر
قصة نوح علیه السلام
ھو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ - وھو إدريس - بن يرد بن مھلايیل
بن قینن بن أنوش بن شیث بن آدم أبي البشر علیه السلام.
وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، فیما ذكره ابن
جرير وغیره.
وعلى تاريخ أھل الكتاب المتقدم يكون بین مولد نوح وموت آدم مائة
وست وأربعون سنة، وكان بینھما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم بن
حبان في "صحیحه": حَدَّثَنا مُحَمْد بن عمر بن يوسف، حَدَّثَنا مُحَمْد بن عبد
الملك بن زنجويه، حَدَّثَنا أبو توبة، حَدَّثَنا معاوية بن سلام، عن أخیه زيد بن
سلام، سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامه : أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي
كان آدم؟ قال : نعم مكلم . قال: فكم كان بینه وبن نوح؟ قال عشرة قرون .
قلت: وھذا على شرط مسلم ولم يخرجه.
وفي صحیح البُخَاريّ عن ابن عبَّاس قال : كان بین آدم ونوح عشرة قرون
كلھم على الإسلام.
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما ھو المتبادر عند كثیر من الناس -
فبینھما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قید به ابن
عبَّاس بالإسلام، إذ قد يكون بینھما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على
الإسلام، لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون، وزادنا ابن
عبَّاس أنھم كلھم كانوا على الإسلام.
وھذا يرد قول من زعم من أھل التواريخ وغیرھم من أھل الكتاب : أن
قابیل وبنیه عبدوا النار. والله أعلم.
وإن كان المراد بالقرن الجیل من الناس كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا
مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوح } وقوله : {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِھِمْ قَرْناً آخَرِي نَ} وقال
تعالى: {وَقُرُوناً بَیْنَ ذَلِكَ كَثِیر اً} وقال: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا قَبْلَھُمْ مِنْ قَرْن } وكقوله
علیه السلام : "خیر القرون قرني ". الحديث، فقد كان الجیل قبل نوح يعمرون
الدھور الطويلة، فعلى ھذا يكون بین آدم ونوح ألوف من السنین. والله أعلم.
وبالجملة فنوح علیه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام
والطواغیت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد فكان
أول رسول بعث إلى أھل الأرض، كما يقول أھل الموقف يوم القیامة.
وكان قومه يقال لھم بنو راسب فیما ذكره ابن جبیر وغیره.
واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث، فقیل كان ابن خمسین سنة، وقیل
ابن ثلاثمائة وخمسین سنة، وقیل ابن أربعمائة وثمانین سنة حكاھا ابن
جرير، وعزا الثالثة منھا إلى ابن عبَّاس.
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب
بالطوفان، وكیف أنجاه وأصحاب السفینة، في غیر ما موضع من كتابه العزيز :
ففي الأعراف ويونس وھود والأنبیاء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات
واقتربت، وأنزل فیه سورة كاملة.
فقال في سورة الأعراف : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِیم . قَالَ الْمَلأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِین . قَالَ يَا قَوْمِ لَیْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِی نَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُو نَ.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِیُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُم تُرْحَمُونَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَیْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
إِنَّھُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِینَ}.
وقال تعالى في سورة يونس : {وَاتْلُ عَلَیْھِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنْ ك انَ كَبُرَ عَلَیْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِیرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَیْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِي .
فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ
الْمُسْلِمِینَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّیْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاھُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَیْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
وقال تعالى في سورة ھود : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِینٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِیم . فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاك إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ ھُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِی نَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوھَا
وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُو نَ. وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَیْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا
بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّھُمْ مُلاقُو رَبِّھِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُ مْ قَوْماً تَجْھَلُو نَ. وَيَا قَوْمِ مَنْ
يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُھُمْ أَفَلا تَذَكَّرُو نَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَیْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْیُنُكُمْ لَنْ يُؤ تِْیَھُمْ اللَّهُ
خَیْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِھِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِینَ. قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِینَ. قَالَ إِنَّمَا يَأْتِیكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ
شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِي نَ. وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ھُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُو نَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ
إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُو نَ. وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ
مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُو نَ. وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا وَلا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھ مْ مُغْرَقُو نَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیْهِ مَلأٌ مِنْ
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُو نَ. فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِیهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیل . وقَالَ ارْكَبُوا فِیھَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاھَا وَمُرْسَاھَا
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِیم . وَھِيَ تَجْرِي بِھِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ
فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِي نَ. قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ ق الَ لاَ عَاصِمَ الْیَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَیْنَھُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِی نَ. وَقِیلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِیضَ
الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِی لَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِی نَ. وَنَادَى
نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَھْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِی نَ.
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَھْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَیْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاھِلِی نَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَسْأَلَكَ مَا
لَیْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغفِْرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ. قِیلَ يَا نُوحُ اھْبِطْ
بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَ كَاتٍ عَلَیْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُھُمْ ثُمَّ يَمَسُّھُمْ
مِنَّا عَذَابٌ أَلِیم . تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَیْبِ نُوحِیھَا إِلَیْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُھَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
مِنْ قَبْلِ ھَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِینَ}.
وقال تعالى في سورة الأنبیاء : {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم . وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّھُمْ
كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاھُمْ أَجْمَعِینَ}.
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا ھَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَیْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِھَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِینَ، إِنْ ھُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا
بِهِ حَتَّى حِینٍ، قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي ، فَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ
بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ
وَأَھْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ مِنْھُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِي نَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ
مُغْرَقُونَ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا
مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَیْرُ الْمُنزِلِینَ، إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِینَ}.
وقال تعالى في سورة الشعراء : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِی نَ. إِذْ قَالَ لَھُمْ
أَخُوھُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُو نَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِین . فَاتَّقُوا اللَّ هَ وَأَطِیعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِی نَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِیعُونِي . قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُو نَ. قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُو نَ. إِنْ حِسَابُھُمْ إِلاَّ
عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُو نَ. وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِی نَ. إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِین . قَالُوا لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِی نَ. قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي . فَافْتَحْ بَیْنِي
وَبَیْنَھُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِی نَ. فَأَنجَیْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِی نَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُھُمْ مُؤْمِنِی نَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَھُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِیمُ}.
وقال تعالى في سورة العنكبوت : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ
فِیھِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عَاماً فَأَخَذَھُمْ الطُّوفَانُ وَھُمْ ظَالِمُو نَ. فَأَنجَیْنَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِینَةِ وَجَعَلْنَاھَا آيَةً لِلْعَالَمِینَ}.
وقال تعالى في سورة والصافات : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِیبُونَ.
وَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم . وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ ھُمْ الْبَاقِی نَ. وَتَرَكْنَا عَلَیْهِ فِي
الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِی نَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِی نَ. إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِینَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ}.
وقال تعالى في سورة اقتربت : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا
مَجْنُونٌ وَازْدُجِ رَ. فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ
مُنْھَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُر . تَجْرِي بِأَعْیُنِنَا جَزَاءً لِمَن كَانَ كُفِ رَ. وَلَقَدْ تَرَكْنَاھَا آيَةً فَھَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ. فَكَیْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَھَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
وقال تعالى : {بسم الله الرحمن الرحیم، إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِیَھُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَ ذِيرٌ مُبِینٌ، أَنْ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِي، يَغفِْرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ
قَوْمِي لَیْلاً و نَھَاراً، فَلَمْ يَزِدْھُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُھُمْ لِتَغفِْرَ لَھُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَھُمْ فِي آذَانِھِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِیَابَھُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً، ثُمَّ
إِنِّي دَعَوْتُھُمْ جِھَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَھُمْ وَأَسْرَرْتُ لَھُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغفِْرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْھَاراً، مَا لَكُم لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَیْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِیھِنَّ نُوراً
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً، ثُمَّ يُعِیدُكُم فِیھَا
وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْھَا سُبُلاً فِجَاجاً،
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّھُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً، وَمَكَرُوا
مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِھَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِیراً وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِینَ إِلاَّ ضَلاَلاً، مِمَّا خَطِیئَاتِھِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَھُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى
الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْھُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي وَلِمَنْ دَخَلَ بَیْتِي مُؤْمِناً و لِلْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ
الظَّالِمِینَ إِلاَّ تَبَاراً}.
وقد تكلمنا على كل موضع من ھذه في التفسیر . وسنذكر مضمون
القصة مجموعاً من ھذه الأماكن المتفرقة، ومما دلت علیه الأحاديث والآثار.
وقد جرى ذكره أيضاً في مواضع متفرقة من القرآن فیھا مد حه وذم من
خالفه، فقال تعالى في سورة النساء : {إِنَّا أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ كَمَا أَوْحَیْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِیِّینَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَیْنَا إِلَى إِبْرَاھِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ
وَعِیسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَھَار ونَ وَسُلَیْمَانَ وَآتَیْنَا دَاوُودَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْنَاھُمْ عَلَیْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْھُمْ عَلَیْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِیماً،
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِیماً}.
وقال في سورة الأنعام {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَیْنَاھَا إِبْرَاھِیمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمٌ، وَوَھَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاُّ ھَدَيْنَا
وَنُوحاً ھَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى
وَھَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِینَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْیَى وَعِیسَى وَإِلْیَاسَ كُلٌّ مِنْ
الصَّالِحِینَ، وَإِسْمَاعِیلَ وَالْیَسَعَ وَيُونُسَ وَل وطاً وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِینَ وَمِنْ
آبَائِھِمْ وَذُرِّيَّاتِھِمْ وَإِخْوَانِھِمْ وَاجْتَبَیْنَاھُمْ وَھَدَيْنَاھُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ}. الآيات.
وتقدمت قصته في الأعراف.
وقال في سورة براءة: {أَلَمْ يَأْتِھِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِھِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَقَوْمِ إِبْرَاھِیمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْھُمْ رُسُلُھُمْ بِالبَیِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِیَظْلِمَھُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَھُمْ يَظْلِمُونَ}.
وتقدمت قصته في يونس وھود.
وقال في سورة إبراھیم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِھِمْ لَا يَعْلَمُھُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْھُمْ رُسُلُھُمْ بِالْبَیِّنَاتِ فَرَدُّوا
أَيْدِيَھُمْ فِي أَفْوَاھِھِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْ نَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا
إِلَیْهِ مُرِيبٍ}.
وقال في سورة سبحان : {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً
شَكُوراً}وقال فیھا أيض اً: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِیراً بَصِیراً}.
وتقدمت قصته في الأنبیاء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت.
وقال في سورة الأحزاب : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِیِّینَ مِیثَاقَھُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَ ا مِنْھُمْ مِیثَاقاً غَلِیظ اً}. وقال في
سورة ص : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ، إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}.
وقال في سورة غافر: {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِھِمْ وَھَمَّتْ
كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِھِمْ لِیَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِیُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُھُمْ فَكَیْفَ
كَانَ عِقَاب، وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّھُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
وقال في سورة الشورى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّينَ وَلاَ
تَتَفَرَّقُوا فِی هِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِینَ مَا تَدْعُوھُمْ إِلَیْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَیْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَھْدِي إِلَیْهِ مَنْ يُنِیبُ}.
وقال تعالى في سورة ق : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ،
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوط ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِیدِ}.
وقال في الذاريات: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّھُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِینَ}.
وقال في النجم: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّھُمْ كَانُوا ھُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}.
وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة.
وقال تعالى في سورة الحديد : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاھِیمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِھِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْھُمْ مُھْتَدٍ وَكَثِیرٌ مِنْھُمْ فَاسِقُونَ}.
وقال تعالى في سورة التحريم : {ضَرَبَ ا للَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ
وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَیْنِ فَخَانَتَاھُمَا فَلَمْ يُغْنِیَا عَنْھُمَا
مِنْ اللَّهِ شَیْئاً وَقِیلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِینَ}.
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب والسنة والآثار، فقد
قدمنا عن ابن عبَّاس: أنه كان بین آدم ونوح عشرة قرون كلھم على الإسلام،
رواه البُخَاريّ. وذكرنا أن المراد بالقرن الجیل أو المدة على ما سلف.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأھل ذلك
الزمان إلى عبادة الأصنام.
وكان سبب ذلك ما رواه البُخَاريّ من حديث ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن
عبَّاس عند تفسیر قوله تعالى : {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِھَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً
وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْر اً}. قال: ھذه أسماء رجال صالحین من ق وم نوح، فلما
ھلكوا أوحى الشّیْطان إلى قومھم أن انصبوا إلى مجالسھم التي كانوا
يجلسون فیھا أنصاباً وسموھا بأسمائھم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا ھلك
أولئك وانتسخ العلم عبدت.
قال ابن عبَّاس : وصارت ھذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب
بعد.
وھكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومُحَمْد بن اسحاق.
وقال ابن جرير "تفسیره": حَدَّثَنا ابن حمید، حَدَّثَن ا مھران، عن سفیان،
عن موسى، عن مُحَمْد بن قیس قال : كانوا قوماً صالحین بین آدم ونوح وكان
لھم أتباع يقتدون بھم، فلما ماتوا قال أصحابھم الذين كانوا يقتدون بھم : لو
صورناھم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناھم، فصوروھم . فلما ماتوا وجاء
آخرون دب إلیھم إبلیس فقال : إنما كانوا يعبدونھم وبھم يسقون المطر .
فعبدوھم.
وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبیر أنه قال : ود ويغوث ويعوق وسواع
ونسر، أولاد آدم، وكان "ود" أكبرھم وأبرھم به.
قال ابن أبي ح اتم: حَدَّثَنا أحمد بن منصور، حَدَّثَن ا الحسن بن موسى؛
حَدَّثَنا يعقوب عن أبي المطھر، قال : ذكروا عند أبي جعفر - ھو الباقر - وھو
قائم يصلي يزيد بن المھلب، قال فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن
المھلب، أما إنه قتل في أول أرض عبد فیھا غیر الله تعالى . قال ذكر وداً قال :
كان رجلاً صالحاً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض
بابل وجزعوا علیه، فلما رأى إبلیس جزعھم علیه تشبه في صورة إنسان ثم
قال: إني أرى جزعكم على ھذا الرجل، فھل لكم أن أصور لكم مثله فیكون
في ناديكم فتذكرونه به؟ قالو ا: نعم . فصور لھم مثله، قال : فوضعوه في
ناديھم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بھم من ذكره قال : ھل لكم أجعل في
منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله لیكون له في بیته فتذكرونه؟ قالو ا: نعم .
قال: فمثل لكل أھل بیت تمثاله مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به . قال : وأدرك
أبناؤھم فجعلوا يرون م ا يصنعون به، قال : وتناسلوا ودرس أمر ذكرھم إياه
حتى اتخذوه إلھاً يعبدونه من دون الله أولاد أولادھم، فكان أول ما عبد غیر
الله "ود" الصنم الذي سموه وداً.
ومقتضى ھذا السیاق أن كل صنم من ھذه عبده طائفة من الناس . وقد
ذكر أنه لما تطاولت العھود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثیل مجسدة لیكون
أثبت لھم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل. ولھم في عبادتھا مسالك
كثیرة جداً قد ذكرنا في مواضعھا من كتابنا التفسیر. ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في "الصحیحین" عن رسول الله صلى الله علیه وسلم : أنه لما
ذكرت عنده أم سلمة وأم حبیبة، تلك الكنیسة التي رأينھا بأرض الحبشة،
ويقال لھا مارية، وذكرتا من حسنھا وتصاوير فیھا قال : "أولئك إذا مات فیھم
الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فیه تلك الصورة، أولئك شرار
الخلق عند الله عز وجل".
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض، وعم البلاد بعب ادة الأصنام
فیھا، بعث الله عبده ورسوله نوحاً علیه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا
شريك له، وينھي عن عبادة ما سواه.
فكان أول رسول بعثه الله إلى أھل الأرض، كما ثبت في "الصحیحین" من
حديث ابن حبان، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي ھريرة عن النبي
صلى الله علیه وسلم في حديث الشفاعة قال : "فیأتون آدم فیقولون : يا آدم
أنت أبو البشر، خلقك الله بیده، ونفخ فیك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا
لك وأسكنك الجنَّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فیه وما بلغنا؟
فیقول: ربي قد غضب غضباً شديداً لم يغضب قبله مثله ولا يغ ضب بعده
مثله، ونھاني عن شجرة فعصیت، نفسي نفسي . اذھبوا إلى غیري، اذھبوا
إلى نوح.
فیأتون نوحاً فیقولون : يا نوح، أنت أول الرسل إلى أھل الأرض، وسمّاك
الله عبداً شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فیه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا
إلى ربك عز وجل؟ فیقول : ربي قد غضب الیوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا
يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده
البُخَاريّ في قصة نوح.
فلما بعث الله نوحاً علیه السلام، دعاھم إلى إفراد عبادة الله وحده لا
شريك له، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوح دانیته،
وأنه لا إله غیره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين
ھم كلھم من ذريته، كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ ھُمْ الْبَاقِی نَ}. وقال فیه
وفي إبراھیم : {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِھِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَا بَ} أي كل نبي من بعد نوح
فمن ذريته. وكذلك إبراھیم.
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ}. وقال تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَانِ آلِھَ ةً يُعْبَدُو نَ}. وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ
نُوحِي إِلَیْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
ولھذا قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ ع ظِیمٍ} وقال: {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
أَلِیمٍ}. وقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُو نَ} وقال : {قَالَ
يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِینٌ، أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِ} إلى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَاراً} الآيات الكريمات.
فذكر أنھم دعاھم إلى الله بأنواع الدعوة في اللیل والنھار، والسر
والاجھار، بالترغیب تارة والترھیب أخرى، وكل ھذا لم ينجح فیھم، بل استمر
أكثرھم على الضلالة والطغیان وعباد ة الأصنام والأوثان. ونصبوا له العداوة في
كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدھم بالرجم والإخراج،
ونالوا منھم وبالغوا في أمرھم.
{قال الملأ من قومه } أي السادة الكبراء منھم : {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ
مُبِینٍ}.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَیْسَ بِي ضَلا لَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِی نَ} أي لست
كما تزعمون من أني ضال، بل على الھدى المستقیم رسول من رب
العالمین، أي الذي يقول للشيء كن فیكون {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ
وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُو نَ}. وھذا شأن ا لرسول أن يكون بلیغاً، أي فصیحاً
ناصحاً، أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فیما قالو ا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ ھُمْ
أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِینَ}.
تعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا من اتبعه، ورأوھم أراذلھم . وقد
قیل: إنھم كانوا من أفناد الناس، وھم ضعفاؤھم، كم ا قال ھرقل : وھم أتباع
الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لھم من اتباع الحق.
وقولھم {بَادِي الرَّأْي } أي بمجرد ما دعوتھم استجابو ا لك من غیر نظر ولا
روية. وھذا الذي رموھم به ھو عین ما يمدحون بسببه رضي الله عنھم، فإن
الحق الظاھر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب إتباعه والانقیاد له
متى ظھر.
ولھذا قال رسول الله صلى الله علیه وسلم مادحاً للصديق : "ما دعوت
أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غیر أبي بكر، فإنه لم يتلعثم". ولھذا كانت
بیعته يوم السقیفة أيضاً سريعة من غیر نظر ولا روية، لأن أفضلیته على من
عداه ظاھرة جلیة عند الصحابة رضي الله عنھم . ولھذا قال رسول الله صلى
الله علیه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فیه على خلا فته
فتركه، قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه.
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به . {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْل } أي
لم يظھر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مرية علینا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِینَ، قَالَ
يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ
عَلَیْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوھَا وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُونَ}.
وھذا تلطف في الخطاب معھم، وترفق بھم في الدعوة إلى الحق، كما
قال تعالى : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }. وقال تعالى : {ادْعُ إِلَى
سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْھُمْ بِالَّتِي ھِيَ أَحْسَن } وھذا
منه.
يقول لھم : {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِه }
أي النبوة والرسالة، {فعمیت علیكم } أي فلم تفھموھا ولم تھتدوا إلیھا،
{أَنُلْزِمُكُمُوھَا} أي أنغصبكم بھا ونجبركم علیھا، {وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُو نَ} ؟ أي
لیس لي فیكم حیلة والحالة ھذه . {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَیْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ
عَلَى اللَّهِ} أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في
دنیاكم وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خیر لي، وأبقى مما
تعطونني أنتم.
وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّھُمْ مُلاَقُو رَبِّھِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً
تَجْھَلُونَ} كأنھم طلبوا منه أن يبعد ھؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا ھو
فعل ذلك، فأبى علیھم ذلك وقال: {إِنَّھُمْ مُلاَقُو رَبِّھِمْ} أي: فأخاف إن طردتھم،
أفلا تذكرون.
ولھذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله علیه وسلم أن يطرد عنه
ضعفاء المؤمنین، كعمار وصھیب وبلال وخباب وأشباھھم، نھاه الله عن ذلك،
كما بیناه في سورتي الأنعام والكھف.
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَیْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَك } أي
بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما
أقدرني علیه، ولا أمل ك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْیُنُكُم } يعني من أتباعه {لَنْ يُؤْتِیَھُمْ اللَّهُ خَیْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنفُسِھِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِی نَ} أي لا أشھد علیھم بأنھم لا خیر لھم عند
الله يوم القیامة، الله أعلم بھم، وسیجازيھم على ما في نفوسھم، إن خیراً
فخیر، وإن شراً فشر، كما قالوا في المواضع الأخر : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الأَرْذَلُونَ، قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسَابُھُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ
تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِینَ، إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِینٌ}.
وقد تطاول الزمان والمجادلة بینه وبینھم كما قال تعالى : {فَلَبِثَ فِیھِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عَاماً فَأَخَذَھُمْ الطُّوفَانُ وَھُمْ ظَالِمُو نَ} أي ومع ھذه
المدة الطويلة فما آمن به إلا القلیل منھم.
وكان كلما انقرض جیل وصوا من بعدھم بعدم الإيمان به ومحاربته
ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه، وصاه فیما بینه وبینه: ألا
يؤمن بنوح أبداً ما عاش، ودائماً ما بقى.
وكانت سجاياھم تأبى الإيمان وإتباع الحق، ولھذا قال: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً
كَفَّاراً}.
ولھذا: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ
الصَّادِقِینَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِیكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُم بِمُعْجِزِي نَ} أي إنما يقدر
على ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر، بل ھو الذي
يقول للشيء كن فیكون . {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ
اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ھُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُو نَ} أي من يرد الله فتنته فلن يملك
أحد ھدايته، ھو الذي يھدي من يشاء ويضل من يشاء، وھو الفعال لما يريد،
وھو العزيز الحكیم، العلیم بمن يستحق الھداية ومن يستحق الغواية، وله
الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} تسلیة له عما
كان منھم إلیه {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُو نَ} وھذه تعزية لنوح علیه السلام
في قومه أنه لن يؤمن منھم إلا من قد آمن، أي لا يسوأنك ما جرى فإن النصر
قريب والنبأ "عجب" عجیب.
{وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ
مُغْرَقُونَ}.
وذلك أن نوحاً علیه السلام لما يئس من صلاحھم وفلاحھم، ورأى أنھم لا
خیر فیھم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال،
دعا علیھم دعوة غضب فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى : {وَلَقَدْ
نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِیبُونَ، وَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم }. وقال تعالى :
{وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم }. وقال
تعالى: {قَالَ رَب إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي، فَافْتَحْ بَیْنِي وَبَیْنَھُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ
مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِی نَ} وقال تعالى : {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر } وقال تعالى:
{قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي }. وقال تعالى: {مِمَّا خَطِیئَا تِھِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَھُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ
الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْھُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}.
فاجتمع علیھم خطاياھم من كفرھم وفجورھم ودعوة نبیھم علیھم.
فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وھي السفینة العظیمة التي
لم يكن لھا نظیر قبلھا ولا يكون بعدھا مثلھا.
وقدم الله تعالى إلیه أنه إذا جاء أمره، وحل بھم بأسه الذي لا يرد عن
القوم المجرمین، أنه لا يع اوده فیھم ولا يراجعه؛ فإنه لعله قد تدركه رقة على
قومه عند معاينة العذاب النازل بھم، فإنه لیس الخبر كالمعاينة، ولھذا قال :
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ مُغْرَقُونَ}.
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي يستھزئون به
استبعاداً لوقوع ما توعدھم به . {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ} أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على
كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله علیكم . {فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِیهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ}.
وقد كانت سجاياھم الكفر الغلیظ والعناد البالغ في الدنیا، وھكذا في
الآخرة فإنھم يجحدون أيضاً أن يكون جاءھم رسول.
كما قال البُخَاريّ: حَدَّثَنا موسى بن إسماعیل، حَدَّثَنا عبد الواحد بن زياد،
حَدَّثَنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعید قال: قال رسول الله صلى الله
علیه وسلم "يجيء نوح علیه السلام وأمته، فیقول الله عز وجل : ھل بلغت؟
فیقول: نعم أي رب . فیقول لأمته ھل بلغكم؟ فیقولون : لا ما جاءنا من نبي،
فیقول لنوح : من شھد لك؟ فیقول محمد وأمته، فتشھد أنه قد بلغه " وھو
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُھَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَیْكُمْ شَھِیداً}.
والوسط العدل . فھذه الأمة تشھد على شھادة نبیھا الصادق المصدوق،
بأن الله قد بعث نوحاً بالحق، وأنز ل علیه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته
على أكمل الوجوه وأتمھا، ولم يدع شیئاً مما قد ينفعھم في دينھم إلا وقد
أمرھم به، ولا شیئاً مما قد يضرھم إلا وقد نھاھم عنه، وحذرھم منه.
وھكذا شأن جمیع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسیح الدجال وإن كان
لا يتوقع خروجه في زمانھم؛ حذراً علیھم وشفقة ورحمة بھم.
كما قال البُخَاريّ: حَدَّثَنا عبدان، حَدَّثَنا عبد الله، عن يونس، عن الزھري،
قال سالم قال ابن عمر : قام رسول الله صلى الله علیه وسلم في الناس
فأثنى على الله بما ھو أھله، ثم ذكر الدجال فقال : "إني لأنذرتموه، وما من
نبي إلا وق د أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكني أقول لكم فیه قولاً لم
يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله لیس بأعور".
وھذا الحديث في "الصحیحین" أيضاً من حديث شیبان بن عبد الرحمن
عن يحیى بن أبي كثیر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي ھريرة عن
النبي صلى الله ع لیه وسلم قال : "ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث به
نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنَّة والنار والتي يقول علیھا
الجنَّة ھي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه" لفظ البُخَاريّ.
وقد قال بعض علماء السلف : لما استجاب الله له، أمره أن يغرس شجر اً
لیعمل منه السفینة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى،
وقیل في أربعین سنة. والله أعلم.
قال مُحَمْد بن إسحاق عن الثوري : وكانت من خشب الساج، وقیل من
الصنوبر وھو نص التوراة.
قال الثوري: وأمره أن يجعل طولھا ثمانین ذراعاً، وأن يطلي ظاھرھا
وباطنھا بالقار، وأن يجعل لھا جؤجؤا أزور يشق الماء.
وقال قتادة : كان طولھا ثلاثمائة ذراع في عرض خمسین ذراع اً. وھذا
الذي في التوراة على ما رأيته . وقال الحسن البصري : ستمائة في عرض
ثلاثمائة، وعن ابن عبَّاس : ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقیل : كان
طولھا ألفي ذراع، وعرضھا مائة ذراع.
قالوا كلھم : وكان ارتفاعھا ثلاثین ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كل واحد
عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعلیا للطیور .
وكان بابھا في عرضھا، ولھا غطاء من فوقھا مطبق علیھا.
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي، فَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ
بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَ ا} أي بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لھا، ومشاھدتنا لذلك،
لنرشدك إلى الصواب في صنعتھا.
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھ لَكَ إِلاَّ مَنْ
سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ مِنْھُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ مُغْرَقُونَ}.
فتقدم إلیه بأمره العظیم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل
في ھذه السفینة من كل زوجین اثنین من الحیوانات، وسائر ما فیه روح من
المأكولات وغیرھا لبقاء نسلھا، وأن يحمل معه أھله، أي أھل بیته، إلا من
سبق علیه القول منھم، أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فیه الدعوة التي
لا ترد، ووجب علیه حلول البأس الذي لا يرد . وأمر أنه لا يراجعه فیھم إذا حل
بھم ما يعانیه من العذاب العظیم، الذي قد حتمه علی ھم الفعال لما يريد . كما
قدمنا بیانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمھور وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر
أرجائھا حتى نبعت التنانیر التي ھي محال النار . وعن ابن عبَّاس : التنور عین
في الھند، وعن الشَّعبي بالكوفة، وعن قتادة بالجزيرة.
وقال علي بن أبي طالب : المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر، أي
إشراقه وضیاؤه . أي عند ذلك فاحمل فیھا من كل زوجین اثنین وھذا قول
غريب.
وقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَ لَیْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیلٌ}
ھذا أمر بأنه عند حلول النقمة بھم أن يحمل فیھا من كل زوجین اثنین.
وفي كتاب أھل الكتاب : أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج،
وما لا يؤكل زوجین ذكر وأنثى.
وھذا مغاير لمفھوم قوله تعالى في كت ابنا الحق : "اثنین " أن جعلنا ذلك
مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكیداً لزوجین والمفعول به محذوف فلا ينافي .
والله أعلم.
وذكر بعضھم - ويروى عن ابن عبَّاس : أن أول ما دخل من الطیور الدرة،
وأخر ما دخل من الحیوانات الحمار. ودخل إبلیس متعلقاً بذنب الحمار.
وقال ابن أبي حاتم : حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حدثني اللیث،
حدثني ھشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبیه، أن رسول الله صلى الله
علیه وسلم قال : " لما حمل نوح في السفینة من كل زوجین اثنین، قال
أصحابه: وكیف نطمئن؟ أو كیف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله
علیه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض . ثم شكوا الفأرة، فقالوا
الفويسقة تفسد علینا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله إلى الأسد فعطس،
فخرجت الھرة منه فتخبأت الفأرة منھا. ھذا مرسل.
وقوله: {وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْل } أي من استجیبت فیھم الدعوة
النافذة ممن كفر، فكان منھم ابنه "يام" الذي غرق كما سیأتي بیانه.
{وَمَنْ آمَ نَ} أي واحمل فیھا من آمن بك من أمتك . قال الله تعالى : {وَمَا
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیلٌ} ھذا مع طول المدة والمقام بین أظھرھم، ودعوتھم الأكیدة
لیلاً ونھاراً، بضروب المقال، وفنون الت لطفات، والتھديد والوعید تارة، والترغیب
والوعید أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفینة:
فعن ابن عبَّاس : كانوا ثمانین نفساً معھم نساؤھم . وعن كعب الأحبار :
كانوا اثنین وسبعین نفس اً. وقیل: كانوا عشرة . وقیل : إنما كانوا نوحاً وبنیه
الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة "يام " الذي انخذل وانعزل، وتسلل عن طريق
النجاة فما عدل إذ عدل.
وھذا القول فیه مخالفة لظاھر الآية، بل ھي نص في أنه قد ركب معه
من غیر أھله طائفة ممن آمن به، كما قال : {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ
الْمُؤْمِنِینَ}.
وقیل كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح وھي أم أولاده كلھم: وھم حام وسام ويافث ويام،
ويسمیه أھل الكتاب كنعان وھو الذي قد غرق، وعابر، فقد ماتت قبل
الطوفان، وقیل إنھا غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق علیه القول
لكفرھا.
وعند أھل الكتاب أنھا كانت في السفینة، فیحتمل أنھا كفرت بعد ذلك، أو
أنھا أنظرت لیوم القیامة، والظاھر الأول لقوله : {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ
الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}.
قال الله تعالى : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَیْرُ
الْمُنزِلِینَ}.
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من ھذه السفینة، فنجاه بھا وفتح
بینه وبین قومه، وأقر عینه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى : {وَالَّذِي خَلَقَ
الأَزْوَاجَ كُلَّھَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَ
للإمام ابن الحافظ ابن كثیر
قصة نوح علیه السلام
ھو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ - وھو إدريس - بن يرد بن مھلايیل
بن قینن بن أنوش بن شیث بن آدم أبي البشر علیه السلام.
وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، فیما ذكره ابن
جرير وغیره.
وعلى تاريخ أھل الكتاب المتقدم يكون بین مولد نوح وموت آدم مائة
وست وأربعون سنة، وكان بینھما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم بن
حبان في "صحیحه": حَدَّثَنا مُحَمْد بن عمر بن يوسف، حَدَّثَنا مُحَمْد بن عبد
الملك بن زنجويه، حَدَّثَنا أبو توبة، حَدَّثَنا معاوية بن سلام، عن أخیه زيد بن
سلام، سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامه : أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي
كان آدم؟ قال : نعم مكلم . قال: فكم كان بینه وبن نوح؟ قال عشرة قرون .
قلت: وھذا على شرط مسلم ولم يخرجه.
وفي صحیح البُخَاريّ عن ابن عبَّاس قال : كان بین آدم ونوح عشرة قرون
كلھم على الإسلام.
فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما ھو المتبادر عند كثیر من الناس -
فبینھما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قید به ابن
عبَّاس بالإسلام، إذ قد يكون بینھما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على
الإسلام، لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون، وزادنا ابن
عبَّاس أنھم كلھم كانوا على الإسلام.
وھذا يرد قول من زعم من أھل التواريخ وغیرھم من أھل الكتاب : أن
قابیل وبنیه عبدوا النار. والله أعلم.
وإن كان المراد بالقرن الجیل من الناس كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا
مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوح } وقوله : {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِھِمْ قَرْناً آخَرِي نَ} وقال
تعالى: {وَقُرُوناً بَیْنَ ذَلِكَ كَثِیر اً} وقال: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا قَبْلَھُمْ مِنْ قَرْن } وكقوله
علیه السلام : "خیر القرون قرني ". الحديث، فقد كان الجیل قبل نوح يعمرون
الدھور الطويلة، فعلى ھذا يكون بین آدم ونوح ألوف من السنین. والله أعلم.
وبالجملة فنوح علیه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام
والطواغیت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد فكان
أول رسول بعث إلى أھل الأرض، كما يقول أھل الموقف يوم القیامة.
وكان قومه يقال لھم بنو راسب فیما ذكره ابن جبیر وغیره.
واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث، فقیل كان ابن خمسین سنة، وقیل
ابن ثلاثمائة وخمسین سنة، وقیل ابن أربعمائة وثمانین سنة حكاھا ابن
جرير، وعزا الثالثة منھا إلى ابن عبَّاس.
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب
بالطوفان، وكیف أنجاه وأصحاب السفینة، في غیر ما موضع من كتابه العزيز :
ففي الأعراف ويونس وھود والأنبیاء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات
واقتربت، وأنزل فیه سورة كاملة.
فقال في سورة الأعراف : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِیم . قَالَ الْمَلأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِین . قَالَ يَا قَوْمِ لَیْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِی نَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُو نَ.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِیُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُم تُرْحَمُونَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَیْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
إِنَّھُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِینَ}.
وقال تعالى في سورة يونس : {وَاتْلُ عَلَیْھِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنْ ك انَ كَبُرَ عَلَیْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِیرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَیْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِي .
فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ
الْمُسْلِمِینَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّیْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاھُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَیْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
وقال تعالى في سورة ھود : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِینٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِیم . فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاك إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ ھُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِی نَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوھَا
وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُو نَ. وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَیْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا
بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّھُمْ مُلاقُو رَبِّھِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُ مْ قَوْماً تَجْھَلُو نَ. وَيَا قَوْمِ مَنْ
يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُھُمْ أَفَلا تَذَكَّرُو نَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَیْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْیُنُكُمْ لَنْ يُؤ تِْیَھُمْ اللَّهُ
خَیْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِھِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِینَ. قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِینَ. قَالَ إِنَّمَا يَأْتِیكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ
شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِي نَ. وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ھُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُو نَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ
إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُو نَ. وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ
مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُو نَ. وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا وَلا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھ مْ مُغْرَقُو نَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیْهِ مَلأٌ مِنْ
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُو نَ. فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِیهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیل . وقَالَ ارْكَبُوا فِیھَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاھَا وَمُرْسَاھَا
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِیم . وَھِيَ تَجْرِي بِھِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ
فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِي نَ. قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ ق الَ لاَ عَاصِمَ الْیَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَیْنَھُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِی نَ. وَقِیلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِیضَ
الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِی لَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِی نَ. وَنَادَى
نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَھْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِی نَ.
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَھْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَیْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاھِلِی نَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَسْأَلَكَ مَا
لَیْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغفِْرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ. قِیلَ يَا نُوحُ اھْبِطْ
بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَ كَاتٍ عَلَیْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُھُمْ ثُمَّ يَمَسُّھُمْ
مِنَّا عَذَابٌ أَلِیم . تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَیْبِ نُوحِیھَا إِلَیْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُھَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
مِنْ قَبْلِ ھَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِینَ}.
وقال تعالى في سورة الأنبیاء : {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
فَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم . وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّھُمْ
كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاھُمْ أَجْمَعِینَ}.
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا ھَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَیْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِھَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِینَ، إِنْ ھُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا
بِهِ حَتَّى حِینٍ، قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي ، فَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ
بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ
وَأَھْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ مِنْھُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِي نَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ
مُغْرَقُونَ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا
مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَیْرُ الْمُنزِلِینَ، إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِینَ}.
وقال تعالى في سورة الشعراء : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِی نَ. إِذْ قَالَ لَھُمْ
أَخُوھُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُو نَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِین . فَاتَّقُوا اللَّ هَ وَأَطِیعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِی نَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِیعُونِي . قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُو نَ. قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُو نَ. إِنْ حِسَابُھُمْ إِلاَّ
عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُو نَ. وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِی نَ. إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِین . قَالُوا لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِی نَ. قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي . فَافْتَحْ بَیْنِي
وَبَیْنَھُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِی نَ. فَأَنجَیْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِی نَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُھُمْ مُؤْمِنِی نَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَھُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِیمُ}.
وقال تعالى في سورة العنكبوت : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ
فِیھِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عَاماً فَأَخَذَھُمْ الطُّوفَانُ وَھُمْ ظَالِمُو نَ. فَأَنجَیْنَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِینَةِ وَجَعَلْنَاھَا آيَةً لِلْعَالَمِینَ}.
وقال تعالى في سورة والصافات : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِیبُونَ.
وَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم . وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ ھُمْ الْبَاقِی نَ. وَتَرَكْنَا عَلَیْهِ فِي
الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِی نَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِی نَ. إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِینَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ}.
وقال تعالى في سورة اقتربت : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا
مَجْنُونٌ وَازْدُجِ رَ. فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ
مُنْھَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُر . تَجْرِي بِأَعْیُنِنَا جَزَاءً لِمَن كَانَ كُفِ رَ. وَلَقَدْ تَرَكْنَاھَا آيَةً فَھَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ. فَكَیْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَھَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
وقال تعالى : {بسم الله الرحمن الرحیم، إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِیَھُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَ ذِيرٌ مُبِینٌ، أَنْ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِي، يَغفِْرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ
قَوْمِي لَیْلاً و نَھَاراً، فَلَمْ يَزِدْھُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُھُمْ لِتَغفِْرَ لَھُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَھُمْ فِي آذَانِھِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِیَابَھُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً، ثُمَّ
إِنِّي دَعَوْتُھُمْ جِھَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَھُمْ وَأَسْرَرْتُ لَھُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغفِْرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَیْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْھَاراً، مَا لَكُم لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَیْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِیھِنَّ نُوراً
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً، ثُمَّ يُعِیدُكُم فِیھَا
وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْھَا سُبُلاً فِجَاجاً،
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّھُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً، وَمَكَرُوا
مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِھَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِیراً وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِینَ إِلاَّ ضَلاَلاً، مِمَّا خَطِیئَاتِھِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَھُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى
الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْھُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي وَلِمَنْ دَخَلَ بَیْتِي مُؤْمِناً و لِلْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ
الظَّالِمِینَ إِلاَّ تَبَاراً}.
وقد تكلمنا على كل موضع من ھذه في التفسیر . وسنذكر مضمون
القصة مجموعاً من ھذه الأماكن المتفرقة، ومما دلت علیه الأحاديث والآثار.
وقد جرى ذكره أيضاً في مواضع متفرقة من القرآن فیھا مد حه وذم من
خالفه، فقال تعالى في سورة النساء : {إِنَّا أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ كَمَا أَوْحَیْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِیِّینَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَیْنَا إِلَى إِبْرَاھِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ
وَعِیسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَھَار ونَ وَسُلَیْمَانَ وَآتَیْنَا دَاوُودَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْنَاھُمْ عَلَیْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْھُمْ عَلَیْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِیماً،
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِیماً}.
وقال في سورة الأنعام {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَیْنَاھَا إِبْرَاھِیمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمٌ، وَوَھَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاُّ ھَدَيْنَا
وَنُوحاً ھَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى
وَھَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِینَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْیَى وَعِیسَى وَإِلْیَاسَ كُلٌّ مِنْ
الصَّالِحِینَ، وَإِسْمَاعِیلَ وَالْیَسَعَ وَيُونُسَ وَل وطاً وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِینَ وَمِنْ
آبَائِھِمْ وَذُرِّيَّاتِھِمْ وَإِخْوَانِھِمْ وَاجْتَبَیْنَاھُمْ وَھَدَيْنَاھُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ}. الآيات.
وتقدمت قصته في الأعراف.
وقال في سورة براءة: {أَلَمْ يَأْتِھِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِھِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَقَوْمِ إِبْرَاھِیمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْھُمْ رُسُلُھُمْ بِالبَیِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِیَظْلِمَھُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَھُمْ يَظْلِمُونَ}.
وتقدمت قصته في يونس وھود.
وقال في سورة إبراھیم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِھِمْ لَا يَعْلَمُھُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْھُمْ رُسُلُھُمْ بِالْبَیِّنَاتِ فَرَدُّوا
أَيْدِيَھُمْ فِي أَفْوَاھِھِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْ نَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا
إِلَیْهِ مُرِيبٍ}.
وقال في سورة سبحان : {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً
شَكُوراً}وقال فیھا أيض اً: {وَكَمْ أَھْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِیراً بَصِیراً}.
وتقدمت قصته في الأنبیاء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت.
وقال في سورة الأحزاب : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِیِّینَ مِیثَاقَھُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَ ا مِنْھُمْ مِیثَاقاً غَلِیظ اً}. وقال في
سورة ص : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ، إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}.
وقال في سورة غافر: {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِھِمْ وَھَمَّتْ
كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِھِمْ لِیَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِیُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُھُمْ فَكَیْفَ
كَانَ عِقَاب، وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّھُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
وقال في سورة الشورى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إِبْرَاھِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّينَ وَلاَ
تَتَفَرَّقُوا فِی هِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِینَ مَا تَدْعُوھُمْ إِلَیْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَیْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَھْدِي إِلَیْهِ مَنْ يُنِیبُ}.
وقال تعالى في سورة ق : {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ،
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوط ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِیدِ}.
وقال في الذاريات: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّھُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِینَ}.
وقال في النجم: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّھُمْ كَانُوا ھُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}.
وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة.
وقال تعالى في سورة الحديد : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاھِیمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِھِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْھُمْ مُھْتَدٍ وَكَثِیرٌ مِنْھُمْ فَاسِقُونَ}.
وقال تعالى في سورة التحريم : {ضَرَبَ ا للَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ
وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَیْنِ فَخَانَتَاھُمَا فَلَمْ يُغْنِیَا عَنْھُمَا
مِنْ اللَّهِ شَیْئاً وَقِیلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِینَ}.
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب والسنة والآثار، فقد
قدمنا عن ابن عبَّاس: أنه كان بین آدم ونوح عشرة قرون كلھم على الإسلام،
رواه البُخَاريّ. وذكرنا أن المراد بالقرن الجیل أو المدة على ما سلف.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأھل ذلك
الزمان إلى عبادة الأصنام.
وكان سبب ذلك ما رواه البُخَاريّ من حديث ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن
عبَّاس عند تفسیر قوله تعالى : {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِھَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً
وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْر اً}. قال: ھذه أسماء رجال صالحین من ق وم نوح، فلما
ھلكوا أوحى الشّیْطان إلى قومھم أن انصبوا إلى مجالسھم التي كانوا
يجلسون فیھا أنصاباً وسموھا بأسمائھم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا ھلك
أولئك وانتسخ العلم عبدت.
قال ابن عبَّاس : وصارت ھذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب
بعد.
وھكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومُحَمْد بن اسحاق.
وقال ابن جرير "تفسیره": حَدَّثَنا ابن حمید، حَدَّثَن ا مھران، عن سفیان،
عن موسى، عن مُحَمْد بن قیس قال : كانوا قوماً صالحین بین آدم ونوح وكان
لھم أتباع يقتدون بھم، فلما ماتوا قال أصحابھم الذين كانوا يقتدون بھم : لو
صورناھم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناھم، فصوروھم . فلما ماتوا وجاء
آخرون دب إلیھم إبلیس فقال : إنما كانوا يعبدونھم وبھم يسقون المطر .
فعبدوھم.
وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبیر أنه قال : ود ويغوث ويعوق وسواع
ونسر، أولاد آدم، وكان "ود" أكبرھم وأبرھم به.
قال ابن أبي ح اتم: حَدَّثَنا أحمد بن منصور، حَدَّثَن ا الحسن بن موسى؛
حَدَّثَنا يعقوب عن أبي المطھر، قال : ذكروا عند أبي جعفر - ھو الباقر - وھو
قائم يصلي يزيد بن المھلب، قال فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن
المھلب، أما إنه قتل في أول أرض عبد فیھا غیر الله تعالى . قال ذكر وداً قال :
كان رجلاً صالحاً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض
بابل وجزعوا علیه، فلما رأى إبلیس جزعھم علیه تشبه في صورة إنسان ثم
قال: إني أرى جزعكم على ھذا الرجل، فھل لكم أن أصور لكم مثله فیكون
في ناديكم فتذكرونه به؟ قالو ا: نعم . فصور لھم مثله، قال : فوضعوه في
ناديھم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بھم من ذكره قال : ھل لكم أجعل في
منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله لیكون له في بیته فتذكرونه؟ قالو ا: نعم .
قال: فمثل لكل أھل بیت تمثاله مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به . قال : وأدرك
أبناؤھم فجعلوا يرون م ا يصنعون به، قال : وتناسلوا ودرس أمر ذكرھم إياه
حتى اتخذوه إلھاً يعبدونه من دون الله أولاد أولادھم، فكان أول ما عبد غیر
الله "ود" الصنم الذي سموه وداً.
ومقتضى ھذا السیاق أن كل صنم من ھذه عبده طائفة من الناس . وقد
ذكر أنه لما تطاولت العھود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثیل مجسدة لیكون
أثبت لھم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل. ولھم في عبادتھا مسالك
كثیرة جداً قد ذكرنا في مواضعھا من كتابنا التفسیر. ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في "الصحیحین" عن رسول الله صلى الله علیه وسلم : أنه لما
ذكرت عنده أم سلمة وأم حبیبة، تلك الكنیسة التي رأينھا بأرض الحبشة،
ويقال لھا مارية، وذكرتا من حسنھا وتصاوير فیھا قال : "أولئك إذا مات فیھم
الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فیه تلك الصورة، أولئك شرار
الخلق عند الله عز وجل".
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض، وعم البلاد بعب ادة الأصنام
فیھا، بعث الله عبده ورسوله نوحاً علیه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا
شريك له، وينھي عن عبادة ما سواه.
فكان أول رسول بعثه الله إلى أھل الأرض، كما ثبت في "الصحیحین" من
حديث ابن حبان، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي ھريرة عن النبي
صلى الله علیه وسلم في حديث الشفاعة قال : "فیأتون آدم فیقولون : يا آدم
أنت أبو البشر، خلقك الله بیده، ونفخ فیك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا
لك وأسكنك الجنَّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فیه وما بلغنا؟
فیقول: ربي قد غضب غضباً شديداً لم يغضب قبله مثله ولا يغ ضب بعده
مثله، ونھاني عن شجرة فعصیت، نفسي نفسي . اذھبوا إلى غیري، اذھبوا
إلى نوح.
فیأتون نوحاً فیقولون : يا نوح، أنت أول الرسل إلى أھل الأرض، وسمّاك
الله عبداً شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فیه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا
إلى ربك عز وجل؟ فیقول : ربي قد غضب الیوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا
يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده
البُخَاريّ في قصة نوح.
فلما بعث الله نوحاً علیه السلام، دعاھم إلى إفراد عبادة الله وحده لا
شريك له، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوح دانیته،
وأنه لا إله غیره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين
ھم كلھم من ذريته، كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ ھُمْ الْبَاقِی نَ}. وقال فیه
وفي إبراھیم : {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِھِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَا بَ} أي كل نبي من بعد نوح
فمن ذريته. وكذلك إبراھیم.
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ}. وقال تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَانِ آلِھَ ةً يُعْبَدُو نَ}. وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ
نُوحِي إِلَیْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
ولھذا قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ ع ظِیمٍ} وقال: {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَیْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
أَلِیمٍ}. وقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُو نَ} وقال : {قَالَ
يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِینٌ، أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِیعُونِ} إلى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَاراً} الآيات الكريمات.
فذكر أنھم دعاھم إلى الله بأنواع الدعوة في اللیل والنھار، والسر
والاجھار، بالترغیب تارة والترھیب أخرى، وكل ھذا لم ينجح فیھم، بل استمر
أكثرھم على الضلالة والطغیان وعباد ة الأصنام والأوثان. ونصبوا له العداوة في
كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدھم بالرجم والإخراج،
ونالوا منھم وبالغوا في أمرھم.
{قال الملأ من قومه } أي السادة الكبراء منھم : {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ
مُبِینٍ}.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَیْسَ بِي ضَلا لَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِی نَ} أي لست
كما تزعمون من أني ضال، بل على الھدى المستقیم رسول من رب
العالمین، أي الذي يقول للشيء كن فیكون {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ
وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُو نَ}. وھذا شأن ا لرسول أن يكون بلیغاً، أي فصیحاً
ناصحاً، أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فیما قالو ا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ ھُمْ
أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِینَ}.
تعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا من اتبعه، ورأوھم أراذلھم . وقد
قیل: إنھم كانوا من أفناد الناس، وھم ضعفاؤھم، كم ا قال ھرقل : وھم أتباع
الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لھم من اتباع الحق.
وقولھم {بَادِي الرَّأْي } أي بمجرد ما دعوتھم استجابو ا لك من غیر نظر ولا
روية. وھذا الذي رموھم به ھو عین ما يمدحون بسببه رضي الله عنھم، فإن
الحق الظاھر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب إتباعه والانقیاد له
متى ظھر.
ولھذا قال رسول الله صلى الله علیه وسلم مادحاً للصديق : "ما دعوت
أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غیر أبي بكر، فإنه لم يتلعثم". ولھذا كانت
بیعته يوم السقیفة أيضاً سريعة من غیر نظر ولا روية، لأن أفضلیته على من
عداه ظاھرة جلیة عند الصحابة رضي الله عنھم . ولھذا قال رسول الله صلى
الله علیه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فیه على خلا فته
فتركه، قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه.
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به . {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَیْنَا مِنْ فَضْل } أي
لم يظھر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مرية علینا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِینَ، قَالَ
يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ
عَلَیْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوھَا وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُونَ}.
وھذا تلطف في الخطاب معھم، وترفق بھم في الدعوة إلى الحق، كما
قال تعالى : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }. وقال تعالى : {ادْعُ إِلَى
سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْھُمْ بِالَّتِي ھِيَ أَحْسَن } وھذا
منه.
يقول لھم : {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِه }
أي النبوة والرسالة، {فعمیت علیكم } أي فلم تفھموھا ولم تھتدوا إلیھا،
{أَنُلْزِمُكُمُوھَا} أي أنغصبكم بھا ونجبركم علیھا، {وَأَنْتُمْ لَھَا كَارِھُو نَ} ؟ أي
لیس لي فیكم حیلة والحالة ھذه . {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَیْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ
عَلَى اللَّهِ} أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في
دنیاكم وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خیر لي، وأبقى مما
تعطونني أنتم.
وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّھُمْ مُلاَقُو رَبِّھِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً
تَجْھَلُونَ} كأنھم طلبوا منه أن يبعد ھؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا ھو
فعل ذلك، فأبى علیھم ذلك وقال: {إِنَّھُمْ مُلاَقُو رَبِّھِمْ} أي: فأخاف إن طردتھم،
أفلا تذكرون.
ولھذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله علیه وسلم أن يطرد عنه
ضعفاء المؤمنین، كعمار وصھیب وبلال وخباب وأشباھھم، نھاه الله عن ذلك،
كما بیناه في سورتي الأنعام والكھف.
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَیْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَك } أي
بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما
أقدرني علیه، ولا أمل ك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْیُنُكُم } يعني من أتباعه {لَنْ يُؤْتِیَھُمْ اللَّهُ خَیْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنفُسِھِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِی نَ} أي لا أشھد علیھم بأنھم لا خیر لھم عند
الله يوم القیامة، الله أعلم بھم، وسیجازيھم على ما في نفوسھم، إن خیراً
فخیر، وإن شراً فشر، كما قالوا في المواضع الأخر : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الأَرْذَلُونَ، قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسَابُھُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ
تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِینَ، إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِینٌ}.
وقد تطاول الزمان والمجادلة بینه وبینھم كما قال تعالى : {فَلَبِثَ فِیھِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عَاماً فَأَخَذَھُمْ الطُّوفَانُ وَھُمْ ظَالِمُو نَ} أي ومع ھذه
المدة الطويلة فما آمن به إلا القلیل منھم.
وكان كلما انقرض جیل وصوا من بعدھم بعدم الإيمان به ومحاربته
ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه، وصاه فیما بینه وبینه: ألا
يؤمن بنوح أبداً ما عاش، ودائماً ما بقى.
وكانت سجاياھم تأبى الإيمان وإتباع الحق، ولھذا قال: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً
كَفَّاراً}.
ولھذا: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ
الصَّادِقِینَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِیكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُم بِمُعْجِزِي نَ} أي إنما يقدر
على ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر، بل ھو الذي
يقول للشيء كن فیكون . {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ
اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ھُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُو نَ} أي من يرد الله فتنته فلن يملك
أحد ھدايته، ھو الذي يھدي من يشاء ويضل من يشاء، وھو الفعال لما يريد،
وھو العزيز الحكیم، العلیم بمن يستحق الھداية ومن يستحق الغواية، وله
الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} تسلیة له عما
كان منھم إلیه {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُو نَ} وھذه تعزية لنوح علیه السلام
في قومه أنه لن يؤمن منھم إلا من قد آمن، أي لا يسوأنك ما جرى فإن النصر
قريب والنبأ "عجب" عجیب.
{وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ
مُغْرَقُونَ}.
وذلك أن نوحاً علیه السلام لما يئس من صلاحھم وفلاحھم، ورأى أنھم لا
خیر فیھم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال،
دعا علیھم دعوة غضب فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى : {وَلَقَدْ
نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِیبُونَ، وَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم }. وقال تعالى :
{وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّیْنَاهُ وَأَھْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِیم }. وقال
تعالى: {قَالَ رَب إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي، فَافْتَحْ بَیْنِي وَبَیْنَھُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ
مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِی نَ} وقال تعالى : {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر } وقال تعالى:
{قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي }. وقال تعالى: {مِمَّا خَطِیئَا تِھِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَھُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ
الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْھُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}.
فاجتمع علیھم خطاياھم من كفرھم وفجورھم ودعوة نبیھم علیھم.
فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وھي السفینة العظیمة التي
لم يكن لھا نظیر قبلھا ولا يكون بعدھا مثلھا.
وقدم الله تعالى إلیه أنه إذا جاء أمره، وحل بھم بأسه الذي لا يرد عن
القوم المجرمین، أنه لا يع اوده فیھم ولا يراجعه؛ فإنه لعله قد تدركه رقة على
قومه عند معاينة العذاب النازل بھم، فإنه لیس الخبر كالمعاينة، ولھذا قال :
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ مُغْرَقُونَ}.
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي يستھزئون به
استبعاداً لوقوع ما توعدھم به . {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ} أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على
كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله علیكم . {فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِیهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ}.
وقد كانت سجاياھم الكفر الغلیظ والعناد البالغ في الدنیا، وھكذا في
الآخرة فإنھم يجحدون أيضاً أن يكون جاءھم رسول.
كما قال البُخَاريّ: حَدَّثَنا موسى بن إسماعیل، حَدَّثَنا عبد الواحد بن زياد،
حَدَّثَنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعید قال: قال رسول الله صلى الله
علیه وسلم "يجيء نوح علیه السلام وأمته، فیقول الله عز وجل : ھل بلغت؟
فیقول: نعم أي رب . فیقول لأمته ھل بلغكم؟ فیقولون : لا ما جاءنا من نبي،
فیقول لنوح : من شھد لك؟ فیقول محمد وأمته، فتشھد أنه قد بلغه " وھو
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُھَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَیْكُمْ شَھِیداً}.
والوسط العدل . فھذه الأمة تشھد على شھادة نبیھا الصادق المصدوق،
بأن الله قد بعث نوحاً بالحق، وأنز ل علیه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته
على أكمل الوجوه وأتمھا، ولم يدع شیئاً مما قد ينفعھم في دينھم إلا وقد
أمرھم به، ولا شیئاً مما قد يضرھم إلا وقد نھاھم عنه، وحذرھم منه.
وھكذا شأن جمیع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسیح الدجال وإن كان
لا يتوقع خروجه في زمانھم؛ حذراً علیھم وشفقة ورحمة بھم.
كما قال البُخَاريّ: حَدَّثَنا عبدان، حَدَّثَنا عبد الله، عن يونس، عن الزھري،
قال سالم قال ابن عمر : قام رسول الله صلى الله علیه وسلم في الناس
فأثنى على الله بما ھو أھله، ثم ذكر الدجال فقال : "إني لأنذرتموه، وما من
نبي إلا وق د أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكني أقول لكم فیه قولاً لم
يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله لیس بأعور".
وھذا الحديث في "الصحیحین" أيضاً من حديث شیبان بن عبد الرحمن
عن يحیى بن أبي كثیر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي ھريرة عن
النبي صلى الله ع لیه وسلم قال : "ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث به
نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنَّة والنار والتي يقول علیھا
الجنَّة ھي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه" لفظ البُخَاريّ.
وقد قال بعض علماء السلف : لما استجاب الله له، أمره أن يغرس شجر اً
لیعمل منه السفینة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى،
وقیل في أربعین سنة. والله أعلم.
قال مُحَمْد بن إسحاق عن الثوري : وكانت من خشب الساج، وقیل من
الصنوبر وھو نص التوراة.
قال الثوري: وأمره أن يجعل طولھا ثمانین ذراعاً، وأن يطلي ظاھرھا
وباطنھا بالقار، وأن يجعل لھا جؤجؤا أزور يشق الماء.
وقال قتادة : كان طولھا ثلاثمائة ذراع في عرض خمسین ذراع اً. وھذا
الذي في التوراة على ما رأيته . وقال الحسن البصري : ستمائة في عرض
ثلاثمائة، وعن ابن عبَّاس : ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقیل : كان
طولھا ألفي ذراع، وعرضھا مائة ذراع.
قالوا كلھم : وكان ارتفاعھا ثلاثین ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كل واحد
عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعلیا للطیور .
وكان بابھا في عرضھا، ولھا غطاء من فوقھا مطبق علیھا.
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِي، فَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ
بِأَعْیُنِنَا وَوَحْیِنَ ا} أي بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لھا، ومشاھدتنا لذلك،
لنرشدك إلى الصواب في صنعتھا.
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھ لَكَ إِلاَّ مَنْ
سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ مِنْھُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّھُمْ مُغْرَقُونَ}.
فتقدم إلیه بأمره العظیم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل
في ھذه السفینة من كل زوجین اثنین من الحیوانات، وسائر ما فیه روح من
المأكولات وغیرھا لبقاء نسلھا، وأن يحمل معه أھله، أي أھل بیته، إلا من
سبق علیه القول منھم، أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فیه الدعوة التي
لا ترد، ووجب علیه حلول البأس الذي لا يرد . وأمر أنه لا يراجعه فیھم إذا حل
بھم ما يعانیه من العذاب العظیم، الذي قد حتمه علی ھم الفعال لما يريد . كما
قدمنا بیانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمھور وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر
أرجائھا حتى نبعت التنانیر التي ھي محال النار . وعن ابن عبَّاس : التنور عین
في الھند، وعن الشَّعبي بالكوفة، وعن قتادة بالجزيرة.
وقال علي بن أبي طالب : المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر، أي
إشراقه وضیاؤه . أي عند ذلك فاحمل فیھا من كل زوجین اثنین وھذا قول
غريب.
وقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِیھَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَ لَیْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیلٌ}
ھذا أمر بأنه عند حلول النقمة بھم أن يحمل فیھا من كل زوجین اثنین.
وفي كتاب أھل الكتاب : أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج،
وما لا يؤكل زوجین ذكر وأنثى.
وھذا مغاير لمفھوم قوله تعالى في كت ابنا الحق : "اثنین " أن جعلنا ذلك
مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكیداً لزوجین والمفعول به محذوف فلا ينافي .
والله أعلم.
وذكر بعضھم - ويروى عن ابن عبَّاس : أن أول ما دخل من الطیور الدرة،
وأخر ما دخل من الحیوانات الحمار. ودخل إبلیس متعلقاً بذنب الحمار.
وقال ابن أبي حاتم : حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حدثني اللیث،
حدثني ھشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبیه، أن رسول الله صلى الله
علیه وسلم قال : " لما حمل نوح في السفینة من كل زوجین اثنین، قال
أصحابه: وكیف نطمئن؟ أو كیف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله
علیه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض . ثم شكوا الفأرة، فقالوا
الفويسقة تفسد علینا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله إلى الأسد فعطس،
فخرجت الھرة منه فتخبأت الفأرة منھا. ھذا مرسل.
وقوله: {وَأَھْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْل } أي من استجیبت فیھم الدعوة
النافذة ممن كفر، فكان منھم ابنه "يام" الذي غرق كما سیأتي بیانه.
{وَمَنْ آمَ نَ} أي واحمل فیھا من آمن بك من أمتك . قال الله تعالى : {وَمَا
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِیلٌ} ھذا مع طول المدة والمقام بین أظھرھم، ودعوتھم الأكیدة
لیلاً ونھاراً، بضروب المقال، وفنون الت لطفات، والتھديد والوعید تارة، والترغیب
والوعید أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفینة:
فعن ابن عبَّاس : كانوا ثمانین نفساً معھم نساؤھم . وعن كعب الأحبار :
كانوا اثنین وسبعین نفس اً. وقیل: كانوا عشرة . وقیل : إنما كانوا نوحاً وبنیه
الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة "يام " الذي انخذل وانعزل، وتسلل عن طريق
النجاة فما عدل إذ عدل.
وھذا القول فیه مخالفة لظاھر الآية، بل ھي نص في أنه قد ركب معه
من غیر أھله طائفة ممن آمن به، كما قال : {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ
الْمُؤْمِنِینَ}.
وقیل كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح وھي أم أولاده كلھم: وھم حام وسام ويافث ويام،
ويسمیه أھل الكتاب كنعان وھو الذي قد غرق، وعابر، فقد ماتت قبل
الطوفان، وقیل إنھا غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق علیه القول
لكفرھا.
وعند أھل الكتاب أنھا كانت في السفینة، فیحتمل أنھا كفرت بعد ذلك، أو
أنھا أنظرت لیوم القیامة، والظاھر الأول لقوله : {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ
الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}.
قال الله تعالى : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَیْرُ
الْمُنزِلِینَ}.
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من ھذه السفینة، فنجاه بھا وفتح
بینه وبین قومه، وأقر عینه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى : {وَالَّذِي خَلَقَ
الأَزْوَاجَ كُلَّھَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَ
احمد- عضو مميز
- عدد المساهمات : 431
نقاط : 854
تاريخ التسجيل : 12/09/2009
مواضيع مماثلة
» السلام عليكم
» السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
» مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في
» السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
» مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى